قراءة في رحلة محمد بن مسايب إلى الحجاز في القرن الثامن عشر

شارك:





1يعد فن الرحلات من أقدم فنون الأدب وأجلها نفعا، ولهذا اهتم به سكان المغرب الأوسط والجزائر فيما بعد، فكان من نتائج ذلك أن تركوا لنا رصيدا هاما يروي رحلاتهم وما شاهدوه خلالها. ولهذا تعتبر الرحلات من أهم المصادر لدراسة تاريخ أي منطقة.

ويحتوي العهد العثماني في الجزائر (1830-1520) على رصيد هام من هذه الرحلات، حيث أصبح الجزائريون أكثر ميلا إلى الترحال والتجوال مشرقا ومغربا داخل الجزائر وخارجها، ومهما حاولنا حصر أسماء هؤلاء الرحالة ورحلاتهم، فإن ذلك يعتبر محاولة يائسة، ويعود ذلك إلى كثرتهم وسكوت المصادر عن ذكر أسماء الكثير منهم، كما أن العديد من الرحلات قد ضاعت ولم يعثر لها على أثر. إلا أن كتب التراجم والسير والتاريخ والأدب تركت لنا كثيرا من أسماء هؤلاء، ويمكن أن نذكر في هذا المجال أسماء لرحالة استطاعوا أن يدونوا رحلاتهم، وأصبحت اليوم من أهم المصادر لكتابة التاريخ، ومنهم().

- ابن هطال التلمساني أحمد: رحلة محمد الكبير، باي الغرب إلى الجنوب الصحراوي الجزائري.

- أحمد بن قاسم بن محمد ساسي البوني: الروضة الشهية في الرحلة الحجازية.

- ابن عمار أبو العباس سيدي أحمد: نحلة اللبيب في أخبار الرحلة إلى الحبيب.

- ابن حمادوش عبد الرزاق: لسان المقال في النبأ عن النسب والحسب والحال.

- أبو راس الناصري، محمد بن أحمد: عجائب الأسفار ولطائف الأخبار.

- الورتلاني، الحسين بن محمد: نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار.

أ - رحلات الجزائريين إلى المشرق والحجاز، دوافعها وعواملها

كما سبق الذكر، عرفت الجزائر خلال العهد العثماني ولاسيما القرن الثامن عشر منه ازدهار فن الرحلات، ويظهر أن هناك مجموعة من العوامل ساهمت في هذا النشاط ومنها:

1- استقرار الوضع السياسي للإيالة الجزائرية خلال هذه الفترة، مما ساعد على حرية التنقل دون خوف من مخاطر الطريق.

2- ازدهار الحياة العلمية والأدبية ونشاط حركة التأليف، حيث أن حكام هذه الفترة شجعوا هذا المجال ومن أبرزهم الداي محمد بن عثمان باشا (1766-1791)، ومحمد الكبير باي بايلك الغرب (1779-1796)، وصالح باي بايلك الشرق (1771-1792)(2).

3- تعلق الجزائريين ببلاد المشرق عامة والحجاز خاصة، والشوق إلى زيارة الأماكن المقدسة ورؤية قبر النبي - صلى الله عليه وسلم.

وإلى جانب هذه العوامل هناك دوافع متعددة جعلت الجزائريين يقدمون على الترحال، تاركين وراءهم الوطن والأهل ومتحملين عناء السفر ومخاطره، وربما عدم الرجوع إلى الجزائر، ويمكن أن نحصرها فيما يلي:

1- الدافع الديني: يعتبر من الدوافع الأساسية لذلك، فلقد غلب على المجتمع الجزائري آنذاك طابع التدين، ويمكن أن نحصر مظاهر ذلك فيما يلي:

* انتشار الطرق الصوفية كالتيجانية، الرحمانية، الدرقاوية، القادرية... التي أصبحت تساهم بشكل فعال في التأثير على المجتمع، كما أن هذا الأخير أصبح يكنّ للمرابطين ورجال الدين احتراما وتقديرا كبيرين.

* الخطر الصليبي وحالة الحرب المستمرة ضد القوى المسيحية ولّد لدى الجزائريين حب الجهاد في سبيل الله، وبالتالي التمسك بالدين.

* كان العثمانيون، حكاما وجنودا، من إتباع الطريقة الصوفية البكداشية(3)، كما أنهم طبعوا وجودهم في الجزائر بصبغة دينية في إطار "الجهاد ضد الكفار".

وأمام ظاهرة التدين التي عمت المجتمع، فإن الكثير من العلماء آثروا السفر بهدف أخذ علوم الدين عن علماء المشرق وزيارة المراكز العلمية هناك في القاهرة، دمشق، بغداد والحرمين الشريفين.

2- أداء فريضة الحج: عرف لدى الجزائريين حبهم لزيارة الأماكن المقدسة(4)، حيث كانوا كثيري التمسك بأدائها، وكان الكثير منهم لا يقنع بزيارة واحدة، بل يقوم برحلات متعددة، فبمجرد عودته إلى الجزائر يشد الرحال مرة أخرى إلى هناك، وكان الكثير منهم يفضل البقاء في الحجاز وعدم الرجوع إلى الجزائر.

3- طلب العلم: كان المشرق العربي مركزا لنشر العلوم وتلقينها، ويرجع ذلك إلى وفرة المراكز العلمية كالأزهر أو الحرمين الشريفين، ولهذا كان الجزائريون يتحملون عناء السفر من أجل ملاقاة العلماء والأخذ عنهم ومن هؤلاء: محمد بن قنفذ القسنطيني و أبو راس الناصري...

إلا أنّ هذا لا يعني بأن كل الجزائريين الذين شدوا الرحال إلى بلاد المشرق كان غرضهم طلب العلم، بل هناك من سافر من أجل التعليم وذاع صيته هناك، ومن هؤلاء: أحمد المقري التلمساني (ت1631) الذي درس في القاهرة والحجاز وبلاد الشام، أو يحيى الشاوي (ت1685) الذي كان من أبرز المدرسين في الأزهر الشريف(5)، وأبو راس الناصري الذي كان يناقش علماء المشرق في كثير من أمور الدين ويتفوق عليهم(6).

4- الرحلة للجهاد في سبيل الله: كان كثير من الجزائريين وبدافع الأخوة الإسلامية، يتوجهون إلى البلاد الإسلامية من أجل المشاركة في الجهاد في سبيل الله وصد الأخطار التي تهدد المسلمين، ومن أمثلة هؤلاء ابن الترجمان علي بن محمد (ت1771)، الذي تعلم بمدينة الجزائر، ثم توجه نحو القاهرة، وبعد اندلاع الحرب العثمانية- الروسية شارك في القتال، غير أن انهزام الجيش العثماني أوقعه في الأسر، حيث نقل إلى موسكو وسجن هناك حتى وفاته(7).

5- الرحلة الاضطرارية: كانت الأوضاع السياسية التي عرفتها إيالة الجزائر أثناء العهد العثماني وتراجع حركة التعليم من الدوافع التي اضطرت كثيرا من الجزائريين إلى الهجرة إلى الخارج وخاصة المشرق العربي والاستقرار هناك نهائياً.

6- الرحلة للقيام بسفارة: كانت لها أهداف سياسية، حيث كان الباشاوات يختارون بعض العلماء للقيام بهذه المهمة الديبلوماسية، وعلى سبيل المثال فإن الداي عمر باشا (1815-1817)، كان قد كلف محمد بن العنابي للقيام بسفارة إلى المغرب الأقصى، طلبا للمساعدة العسكرية من السلطان سليمان بعد حملة اللورد إكسموث (1816)، كما قام بسفارة أخرى إلى اسطنبول عام 1817(8).

ما يعرف عن الجزائري- كما سبق ذكره- تعلقه بالبقاع المقدسة، ولهذا كانت نفسه تتوق إلى زيارة هذه الأماكن للتبرك بها ورؤية قبر النبي- صلى الله عليه وسلم. وكان يعبر عن هذا الشوق من خلال كتابات نثرية وشعرية تتعلق بهذا الغرض(9).

ولم يكن الجزائري يكتفي بزيارة واحدة إلى هذه الأماكن، بل قد يكرر هذه الرحلة مرات عديدة، فالورتلاني كان قد حج ثلاث مرات(10)، أما عبد الكريم بن الفكون القسنطيني فكان يلي إمارة ركب الجزائر في الحج(11). وإذا كان بعض الجزائريين يفضلون الرجوع إلى بلادهم، فإن بعضهم الآخر وبدافع الشوق يفضلون الاستقرار نهائيا في بلاد المشرق عامة والحجاز بالخصوص. وهناك كثير من هؤلاء الذين نالوا حظوة وتقديرا لدى السكان، وبرزوا في شتى ميادين العلوم، ومنهم علي بن والي بن حمزة الذي برع في علم الرياضيات وتوفي في مكة المكرمة، ومحمد بن عبد الرحمن البوني الذي اشتهر في الأدب وتوفي في بلاد الحجاز، غير أن من أبرز العلماء الجزائريين الذين استقروا نهائيا في بلاد المشرق كان أحمد بن محمد المقري التلمساني صاحب كتاب "نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب"، والذي ولد بتلمسان، ثم رحل إلى المغرب، ومنها توجه إلى مصر ثم إلى الحجاز حيث أدى فريضة الحج خمس مرات، وكان يلقي دروسا، وزار بيت المقدس ودمشق، وتوفي بالقاهرة(12)، ولم يقتصر هذا الوضع على الرجال فقط بل تعداه إلى نساء جزائريات برعن في شتى العلوم ومنهن صفية بنت محمد أو أم الحياء البسكرية التي استقرت بالمدينة المنورة وبرعت في علم الحديث(13). والجدول التالي يبين لنا نماذجا من علماء جزائريين استقروا نهائيا في بلاد المشرق وماتوا هناك(14):



الاسم مكان الميلاد سنة الوفاة م كان الوفاة



محمد بن يحيى شمس الدين أبو عبد الله الطولقي طولقة 1514 دمشق

قاسم بن عمر شرف الدين الزواوي بجاية 1521 القاهرة

علي بن والي بن حمزة الجزائر أواخر القرن 16م مكة

صفية بن محمد أم الحياء البسكرية بسكرة أواخر القرن 16م المدينة المنورة

محمد بن عبد الرحمن البوني عنابة 1606 الحجاز

أحمد بن محمد المقري التلمساني تلمسان 1631 القاهرة

عيسى الثعالبي الجزائر 1669 مكة المكرمة

يحيى بن محمد الشاوي الجزائر 1685 القاهرة

مصطفى بن عبد الله الرماصي مستغانم 1724 القاهرة

ابن الترجمان علي بن محمد الجزائر 1771 موسكو

محمد بن حسن الجزائري مكـة 1773 القاهرة

أبو العباس الجزائري الجنوب الجزائري 1778 القاهرة

علي بن محمد الميلي الجمالي ميلة 1833 القاهرة

ابن العنابي بن محمود عنابة 1850 الاسكندرية



وإلى جانب الزيارات الحجازية التي كان يؤديها الجزائريون، فإن إيالة الجزائر كانت تخصص عددا معتبرا من الهدايا والأموال ترسلها سنويا إلى الحرمين الشريفين، والتي تخصص للإنفاق على المجال العلمي أو على الأعيان والأشراف والفقراء والمساكين. ولإنجاح هذه العملية كانت الإيالة تعين موظفا لهذا الغرض يطلق عليه "وكيل الحرمين"، الذي كانت تقع على عاتقه مهمة تأمين وصول هذه الهدايا والأموال دون نقصان، ولهذا يضع قائمة مفصلة لها ثم يرسلها مع ركب الحجاج. أما مصدر هذه الهدايا والأموال، فإنها كانت تجمع من مختلف جهات الإيالة، إلى جانب مصادر الأوقاف حيث أن الكثير من السكان أوقفوا بعض ممتلكاتهم لهذا الغرض كالمباني، الدكاكين، المقاهي والبساتين(15).

ب- صاحب الرحلة

يعتبر محمد بن مسايب أحد رموز الشعر الملحون في الجزائر أثناء العهد العثماني. ينحدر أصله من أسرة أندلسية لجأت إلى مدينة فاس ومنها إلى تلمسان، ويظهر أن ذلك تم بعد سقوط غرناطة آخر إمارة إسلامية في الأندلس عام 1492(16). أما عن تاريخ ميلاده فإن المصادر التاريخية تسكت عن ذلك، غير أن تاريخ وفاته ربما يكون في عام 1776(17)، وقد دفن في مقبرة سيدي محمد السنوسي قرب تلمسان.

كان تكوين ابن مسايب تكوينا دينيا، حيث برع في الكثير من العلوم الدينية، ويظهر تدينه في القصائد التي كتبها حيث تدور مواضيعها في هذا المجال كقصائد مدح النبي- صلى الله عليه وسلم- وأخرى حول بعض المرابطين والأولياء الصالحين، وقصيدته حول رحلته لأداء فريضة الحج، موضوع دراستنا.

ومما يجب ذكره في هذا الصدد، أن ازدهار الشعر الشعبي أو الملحون في الجزائر خلال العهد العثماني، وخصوصا القرن الثامن عشر منه، يعبر عن تراجع في الثقافة وعدم اهتمام حكام الإيالة بهذا المجال؛ وقد دفع هذا الوضع كثيرا من علماء الجزائر وأدبائها إلى كتابة قصائدهم بهذا النوع من الشعر لمسايرة الوضع العام، ومن أمثالهم أبو راس الناصر وابن سحنون الراشدي(18).

وقد تناول هذا النوع من الشعر مواضيع متعددة في شتى المجالات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والدينية، فهو يتحدث عن صمود الجزائريين أمام غارات الأوروبيين ومن أمثلة ذلك قصيدة لخضر بن خلوف حول معركة مزغران التي جرت وقائعها قرب مستغانم بين الجزائريين والإسبان، إلى جانب وصف الحياة اليومية للجزائريين ومدح رجال الدين والمرابطين والسياسة(19).

ج- ظروف الرحلة

ليس لدينا تاريخ محدد لهذه الرحلة، حيث إن ابن مسايب لا يذكر أي تاريخ أو حادثة تمكننا من تحديد تاريخ هذه الزيارة، ولكن على العموم يمكن أن نقول بأن هذه الرحلة تمت في منتصف القرن 18م، وقد عرفت إيالة الجزائر خلال هذه الفترة أوضاعا سياسية مستقرة، عكس ما عرفته سابقا أو بعد ذلك.

فخلال هذه الفترة أصبح نظام الحكم أكثر استقرارا، حيث استطاع كثير من الباشاوات، أن يحكموا الإيالة لفترة طويلة من الزمن ويموتون في فراشهم بعد أن عينوا خلفاء لهم لتولي شؤون الحكم بعدهم، فما بين عامي 1710 و1798 لم يعين على رأس الإيالة سوى تسعة دايات فقط، استطاع ثلاثة منهم أن يحكموا لفترة تمتد ما بين 1754 و1798، أي لمدة 44 عاما، ويأتي على رأس هؤلاء الداي محمد بن عثمان باشا الذي حكم وحده 25 عاما، أي من عام 1766 إلى 1791(20).

ولم يستقر هذا الهدوء والاستقرار على مدينة الجزائر فحسب، بل شمل كل المقاطعات البعيدة عن مركز الحكومة، ونعني بذلك بايلك الشرق، بايلك الغرب وبايلك التيطري. وقد مكنت هذه الأوضاع كثيرا من البايات من الإشراف على شؤون بايليكاتهم لفترة طويلة من الزمن، وبالتالي الإصلاح من أحوالها، وحل الكثير من المشاكل التي كان يواجهها السكان، ومن أمثلة ذلك صالح باي حاكم قسنطينة ما بين 1771 و1792 أي لمدة 21 سنة، حيث تميز عهده بكثرة الإنجازات والانتصارات، وفي هذا المجال يذكر محمد الصالح بن العنتري أن عهده كان متميزا، فيقول "وأتقن بنيانها- أي قسنطينة- فكان فيها منفعة للعباد ومصلحة وحصنا للبلاد، وأسس المساجد للديانات، وأجرى للضعفاء والقليلين الصدقات، فبذلك كانت أحواله في غاية الاستقامة والرعية طائعة إليه ومنقادة.. وملك الأملاك في كل البلاد، وعم الخير كل البلاد"(21).

أما في بايلك الغرب فقد استطاع الباي محمد الكبير البقاء على رأس البايلك من عام 1779 إلى غاية عام 1796، وقد مكنه استقرار الأوضاع من إصلاح الأحوال والأوضاع، وأهم عمل قام به كان تحرير وهران وطرد الإسبان منها نهائيا في سنة 1792، كما شجع الحياة العلمية والثقافية(22).

إن استقرار الأوضاع بهذا الشكل، قد مكن من التنقل في كل أرجاء الإيالة بكل أمان ودون أي خوف، ومن بين هؤلاء جماعة الحجاج الذين كانوا يسافرون لأداء فريضة الحج، مع ما بذلته الإيالة من إصلاح للطرق، فمن الملاحظ أن حكامها اهتموا بوضع شبكة متعددة من طرق المواصلات، هدفها ربط معظم جهات الإيالة، وتسهل تنقل الأشخاص والقوافل، وقد اتخذت هذه الطرق اتجاهين(23):

- اتجاه أفقي يربط الشرق بالغرب، وهو طريق الحج.

- اتجاه عمودي يربط الشمال بالجنوب.

د- أهمية الرحلة

من خلال دراستنا لهذه القصيدة، يمكننا أن نستنبط معلومات جد هامة حول رحلات الجزائريين لأداء فريضة الحج خلال العهد العثماني، فهي تصف لنا بشكل دقيق الطريق البري الذي كان يسلكه هؤلاء الحجاج، إلى جانب المدن والمناطق التي كانوا يعبرونها أو يتوقفون عندها للاستراحة واستعادة الأنفاس.

غير أن صاحب الرحلة لا يعطينا تفاصيل حول الأوضاع العامة لهذه المدن والمناطق كما فعل رحالة آخرون مثل الورتلاني الذي يقدم لنا معلومات مفصلة حول رحلته من خلال كتابه "نزهة النظار في فضل علم التاريخ والأخبار". ولكن رغم ذلك، فإنه يمكننا أن نتعرف من خلال القصيدة على التحضيرات التي كان يقوم بها الحجاج قبل خروجهم، وسيرهم حتى الوصول إلى البقاع المقدسة:

* كان الحجاج الجزائريون لا يبادرون بالخروج إلى الحج إلا بعد التبرك بأضرحة الأولياء الصالحين ونيل بركاتهم، فيذكر ابن مسايب بأن حجاج تلمسان كانوا يزورون ضريح الوالي الصالح أبو مدين شعيب، دفين منطقة العباد، وضريح الشيخ السنوسي شيخ الطريقة السنوسية.

ومن المعلوم أن ظاهرة التبرك بالأولياء والمرابطين قد عرفت رواجا كبيرا في إيالة الجزائر خلال العهد العثماني، حيث أن العثمانيين شجعوا ذلك وقربوا إليهم المرابطين كما أغدقوا عليهم الهدايا، وأعفوهم من الضرائب، ومنحوهم جزءا من عائدات الأوقاف وغنائم البحر بهدف كسب تأييدهم لتأثيرهم الكبير على السكان، وبعد وفاتهم بنوا عليهم الأضرحة، فأصبحت مزارات للتبرك بها.

ومن مظاهر احترام المرابطين والأولياء، أن السكان قد ربطوا بهؤلاء كرامات وخوارق. وكانت لهذه الأضرحة قداستها، فكان بإمكان أي شخص ارتكب جريمة أن ينجو من العقاب إذا تمكن من اللجوء إلى ضريح أحد الأولياء الصالحين، بحيث يمنع على "الجاوشية" اقتحامها والقبض على المجرم. وكان ضريح سيدي عبد القادر وسيدي عبد الرحمن من أهم هذه الملاجئ في مدينة الجزائر(24).

كما أن الجنود كانوا قبل خروجهم إلى الجهاد أو الغزو يتوجهون إلى أحد هذه الأضرحة لطلب النصر والبركة، وفي أحيان أخرى كانوا يصطحبون معهم أحد المرابطين خلال تنقلاتهم(25).

* إنّ الرحلة من تلمسان كانت تتفادى المرور عبر وهران، فمن واد تليلات تتجه مباشرة نحو سهل الهبرة ثم مستغانم، وهذا ما يدفعنا إلى الاستنتاج بأن زمن الرحلة كان في وقت ما تزال فيه وهران تحت قبضة الاحتلال الإسباني.

وكان الإسبان قد احتلوا وهران في عام 1509، ورغم تمكن الداي محمد بكداش (1707-1710) من طردهم(26)، إلا أنهم تمكنوا من احتلالها مرة أخرى عام 1732 في عهد الداي كرد عبدي (1724-1732)، ولم يتم تحريرها نهائيا إلا في عام 1792 في عهد الباي محمد الكبير (1779-1796).

* ورد في الرحلة أسماء معالم جغرافية لجبال وسهول وأودية، فمن الجبال ورد ذكر خذ الدير (قرب أولاد ميمون) وتسالة (قرب سيدي بلعباس)، البيبان (القبائل)، ومن السهول هناك الهبرة، متيجة مجانة، ومن الأودية هناك يلل، مينة، واد جر. وتكمن أهمية هذه المعالم في تحديد الطريق بشكل دقيق وتسهيل معرفته على الحجاج.

* كانت مدينة الجزائر محاطة بسور له أبواب تغلق ليلا ولا تفتح إلا صباحا، وهذا ما تؤكده المصادر التاريخية التي تذكر أنه كان للمدينة خمسة أبواب، أشهرها باب الواد، باب الجزيرة، باب البحر، باب الجديد، كما أن ابن مسايب يؤكد هذه الفكرة حين يقول:

قم كي تنحل البيبان للجزائر داخل فرجان.

- يظهر أن السلاطين العثمانيين باعتبارهم يمثلون الخلافة الإسلامية، قد بذلوا مجهودات كبيرة لتأمين الطريق وتسهيل تنقل الحجاج إلى البقاع المقدسة، فحسب القصيدة فإن هؤلاء كانوا يجدون في طريقهم إلى جانب المدن كالجزائر، البليدة، قسنطينة، تونس، طرابلس، القاهرة، مناطق عبور للاستراحة هي عبارة عن محطات مخصصة لهذا الغرض ومنها قصرى والدار الحمراء وعجرود بمصر، وأبيار السلطان وواد النار بشبه الجزيرة العربية. وإلى جانب الاستراحة كانت هذه المحطات تمكن الحجاج من الحصول على الطعام والماء واستبدال وسائل النقل.

- رغم المجهودات المبذولة فيظهر أن الطريق لم تخلُ من المخاطر، فنجد ابن مسايب يذكر بعضها، ومنها أن الصحراء كانت تضم بين أحضانها قطاعا للطرق وصراعا بين القبائل التي تقطنها، ومن ذلك أن الورتلاني يذكر أنه شاهد في طريقه إلى الحج حربا بين قبيلتين تقطنان الجبل الأخضر بليبيا، حيث يصفها بقوله: "التقى الجمعان ونشأ بينهم الحرب والفتنة والأخذ الموت، فانجلى النوائل من بلادهم، أجلوهم من جهة المغرب وورغمة ومن نحا سبيلهم من حليفهم من جهة المشرق وهم العجيلات والزوارات وغير ذلك يحالفهم المرابطون، أعني أولاد مريم، والحمارنة مع ورغمة، فوقع لهم بعض التعدي بسبب مجاورتهم ومحبتهم إياهم"(27)، ويظهر أن هذه الحرب كانت بين قبيلتي النوائل وورغمة، وأن سببها الرئيسي كان الصراع على الماء والمرعى.

كما أن الرحلة كانت شاقة جدا لطول الطريق وصعوبتها، يضاف إلى ذلك نقص الماء الصالح للشرب في بعض المناطق الصحراوية، رغم وجود عدد من الآبار، إلا أن مياه بعضها لم تكن صالحة للشرب. ويذكر الورتلاني في رحلته عددا من الآبار الموجودة في طريق الحج بليبيا، كما يعطينا وصفا دقيقا لمياهها من حيث العذوبة والملوحة(28).

* كان طريق الحج محاذيا للساحل، فكان الحجاج لا يغامرون بالتوغل إلى الداخل وخاصة الصحراء لمخاطرها، كما أنهم كثيرا -حسب القصيدة- ما كانوا يضطرون إلى السير ليلا وذلك لارتفاع درجة الحرارة نهارا. أما الدخول إلى شبه الجزيرة العربية، فكان يتم عبر خليج العقبة، ومنها يسلك الحجاج طريقا ساحليا إلى غاية الوصول إلى مكة المكرمة.

* كان ستار الكعبة الشريفة يطرز في القاهرة، ومن هناك يتم نقله مع الحجاج إلى مكة المكرمة، ويتم ذلك في جو بهيج ووفق تقاليد خاصة.

* كان الحجاج الجزائريون يصادفون في طريقهم حجاجا من بلدان أخرى، ومن هناك يترافقون جميعا إلى بلاد الحجاز.

وخلاصة القول، فإن الوصف الذي يقدمه لنا ابن مسايب حول طريق الحج البري من تلمسان إلى مكة يمكننا من أخذ فكرة حول الظروف التي كان يؤدي فيها الحجاج الجزائريون هذه الفريضة، ومدى شوقهم إلى زيارة الأماكن المقدسة رغم صعوبة الطريق. غير أن هذه القصيدة لا تعطينا تفاصيل دقيقة حول أحوال المناطق التي تمر بها، بل تكتفي بذكر أسماء الأماكن فقط. ولهذا فإن الفائدة لا تكتمل إلا بالاستعانة برحلات أخرى أكثر تفصيلا كرحلة الورتلاني.



1. كثير من هذه الرحلات قد تم تحقيقها، وأصبحت في متناول الباحثين، ومنها رحلة ابن حمادوش التي حققها الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله، أو رحلة الباي محمد الكبير لابن هطال التي حققها الدكتور محمد بن عبد الكريم.
2. المدني، أحمد توفيق، محمد عثمان باشا داي الجزائر 1766-1791 (سيرته، حروبه، أعماله، نظام الدولة والحياة العامة في عهده)، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986.
3. البكداشية: طريقة صوفية تنسب إلى الحاج بكداش بأماسية (الأناضول)، ارتبط بها تأسيس الجيش الإنكشاري، فبعد تشكيل هذه الفرقة من الشباب الأسرى المسيحيين من طرف السلطان أورخان الأول (1326-1360)، أخذهم إلى الحاج بكداش الذي دعا لهم بالخير وأطلق عليهم اسم "يني تشاري" أي الجيش الجديد، راجع: المحامي، فريد بك، تاريخ الدولة العلية العثمانية (تحقيق حقي إحسان)، الطبعة الخامسة، دار النفائس، بيروت، 1986، ص 122.
4. أنجز الأستاذ الدكتور سعد الله، أبو القاسم، بحثا مطولا حول "الرحلات الحجازية الجزائرية" وهو منشور في كتابه "أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر".
5. حول هاتين الشخصيتين أنظر: - الحفناوي أبو القاسم محمد بن الشيخ بن أبي القاسم الديسي بن إبراهيم الغول، تعريف الخلف برجال السلف، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، المكتبة العتيقة، تونس، الطبعة الثانية، 1985، ج1، ص 416، وج2، ص 187.
6. الناصري، محمد أبو راس، فتح الإله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته (حققه وضبطه وعلق عليه محمد بن عبد الكريم)، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1990، ص ص 118-120.
7. د/هلال، عمار، العلماء الجزائريون في البلدان العربية الإسلامية فيما بين القرنين التاسع والعشرين الميلاديين (3/14هـ)، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1995، ص 308.
8. د/ سعد الله، أبو القاسم، تاريخ الجزائر الثقافي من القرن العاشر إلى الرابع عشر الهجري (16-20م)، الجزء الأول، الطبعة الثانية، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1985، ص 405.
9. المرجع نفسه، ج2، ص ص 402-403.
10. المرجع نفسه ج2، ص 409.
11. نفسه، الجزء الأول، ص 528.
12. الحفناوي، أبو القاسم، المصدر السابق،ج1، ص 416. وأيضا: د/سعد الله، أبو القاسم، المرجع السابق، ج2، ص ص 221-233.
13. د/ هلال عمار، المرجع السابق، ص 296.
14. تم وضع هذا الجدول اعتمادا على المصادر والمراجع الآتية:  التمبكي أحمد بابا، نيل الانتهاج بتطريز الديباج، دار الكتب العلمية بيروت، بدون تاريخ.  الحفناوي، أبو القاسم، المصدر السابق.  د/سعد الله، أبو القاسم، المرجع السابق.  د/هلال، عمار، المرجع السابق.
15. د/ سعيدوني، ناصر الدين، النظام المالي للجزائر في أواخر العهد العثماني 1792-1830، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1985، ص ص 146-147.
16. Ben Cheneb (M), « Inténéraire de Tlemcen à la Mekke », R.A, n° 44, 1900, p161.
17. د/ سعيدوني، ناصر الدين، ورقات جزائرية (دراسات وأبحاث في تاريخ الجزائر في العهد العثماني)، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 2000، ص 447.
18. د/سعد الله، أبو القاسم، المرجع السابق، ج2، ص 324.
19. المرجع نفسه، ص 325.
20. حول حياة هذا الداي وأعماله راجع: الزهار، أحمد الشريف، مذكرات نقيب أشراف الجزائر (تحقيق المدني أحمد توفيق)، الطبعة الثانية، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982، ص ص 19-35.
21. العنتري، محمد الصالح بن فريدة منسية في حال دخول الترك بلد قسنطينة واستيلائهم على أوطانها أو تاريخ قسنطينة (مراجعة وتقديم وتعليق بوعزيز يحيى)، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1991، ص 62.
22. حول حياة هذا الباي وإصلاحاته راجع: الراشدي، ابن سحنون أحمد بن محمد بن علي، الثغر الجماني في ابتسام الثغر الوهراني (تحقيق وتقديم المهدي البوعبدلي)،منشورات وزارة التعليم الأصلي، سلسلة التراث،قسنطينة، 1973. وكذلك: بلبراوات، بن عتو، الباي محمد الكبير ومشروعه الحضاري (1779-1796)، رسالة ماجستير، جامعة وهران، نوفمبر 2002.
23. د/سعيدوني، ناصر الدين، ورقات، ص ص 446-459.
24. Venture de Paradis (Jean Michel(, Tunis et Alger au XVIIIe siècle, mémoires et observations rassemblés et présentés par Joseph Cusq, Edition Sindbad, Paris, 1982, p.257.
25. حمدان، خوجة، المرآة (تقديم وتعريب وتحقيق الزبيري العربي)، الطبعة الثانية، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982، ص 112.
26. حول هذا الداي ودوره في تحرير وهران الأول، راجع: الجزائري، محمد بن ميمون، التحفة المرضية في الدولة البكداشية في بلاد الجزائر المحمية (تقديم وتحقيق محمد بن عبد الكريم الجزائري)
27. الورتلاني، الحسين بن محمد، نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار (الرحلة الورتلانية)، تصحيح محمد بن أبي شنب، مطبعة بيير فونتانا الشرقية، الجزائر، 1908، ص ص 650-651.
28. المصدر نفسه. وكذلك: د/سعيدوني، ناصر الدين، ورقات، ص ص 586-587.



بوشنافي محمد - المغرب

ليست هناك تعليقات