أول من دعا إلى الاستقلال

شارك:



الكاتب/ أ. محمد الهادي الحسني
10/07/2008

علمنا أستاذنا الدكتور أبو القاسم سعد الله – حفظه الله ورعاه – أن الكتابة التاريخية يمكن حصرها في ثلاثة أنواع هي:
1- الكتابة الشعبية: وهي التي يقوم بها أناس غير متخصصين في التاريخ، كالسياسيين، أو الصحافيين، أو الأدباء.. وغالبا ما تظهر في كتاباتهم النزعة الذاتية، وقد يحرف فيها الكلام عن مواضعه، وقد يتقول فيها على أناس، وقد يلبس فيها على أناس، ولكل وجهة هو موليها...
- الكتابة الرسمية: وهي التي تعبر عن رأي السلطة، أو حزب، أو هيئة، ويتحرى فيها التركيز على أفكار، وآراء، وحوادث، ومواقف، أو يهمش أشخاص، ويقلل من شأنهم، وكل حزب بما لديهم فرحون.
3- الكتابة العلمية: وهي التي يتولاها مؤرخون متخصصون، يتصفون بالنزاهة، ويتسمون بالموضوعية في تناول القضايا، ويتحلوْن بالحيادية في الأحكام، معتمدين في ذلك على ما بين أيديهم من وثائق، وما توصلوا إليه من حقائق.
إن تاريخنا المعاصر ما يزال في أكثره أسير النوعين الأولين من الكتابة، إما لاندثار الوثائق، أو لعدم السماح بالاطلاع عليها، أو لتعمد الإعراض عنها، ومن أمثلة ذلك:
أولا: ما يقال في الكتابات الرسمية وبعض الكتابات الشعبية من أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لم تؤيد ثورة أول نوفمبر إلا في سنة 1956، وهي أقوال عارية عن الصحة، لأن أولى البيانات المؤيدة للثورة، الداعية للالتفاف حولها، ونصرتها، هي بيانات رئيس جمعية العلماء الإمام محمد البشير الإبراهيمي، وكلها صدرت ما بين 2 و15 نوفمبر 1954. (انظر: الجزائر الثائرة للفضيل الورتلاني، المطبوع أول مرة في سنة 1956. وآثار الإمام الإبراهيمي. ج5). كما أن وثيقة "جبهة تحرير الجزائر" الصادرة في 17 فبراير 1955، كان أول توقيع عليها هو توقيع الإمام الإبراهيمي، وتوقيعات السادة الفضيل الورتلاني، محمد خيضر، الشاذلي المكي، آيت أحمد، حسين الأحول، محمد يزيد، أحمد مزغنة، أحمد بن بلة، أحمد بيوض (انظر: فتحي الديب: عبد الناصر وثورة الجزائر ص644- 645). ولا نعرف – لحد الآن – أن هناك من أعضاء جمعية العلماء من اعترض على بيانات الإمام الإبراهيمي، التي وقعها باسم جمعية العلماء.
ثانيا: قضية عبان رمضان، الذي قتله "إخوانه"؛ لما كان بينه وبينهم من شنآن، أو اختلاف في الرأي، أو تنازع على النفوذ، ثم اختلف فيه، فالرئيسان أحمد بن بلة وعلي كافي قالا قولا يشينه، والرئيس ابن يوسف بن خدة قال فيه قولا يزينه.
ومما يدخل في النوعين الأولين من الكتابة التاريخية، تلك المقولة التي تتردد على الألسنة، وفي بعض الكتابات، وهي أن مصالي الحاج – رحمه الله وغفر له – هو أول من دعا إلى استقلال الجزائر، ويصدق على هذه المقولة ما قاله الشاعر الأندلسي مؤمن بن سعيد:
ما كل ما قيل كما قيلا فقد باشر الناس الأباطيلا
لقد تساءلت كثيرا: هل هؤلاء الذين يقولون هذا الكلام ويكتبونه واعون لما يقولون، مدركون لما يرددون، لأن معنى قولهم هذا هو أن الذين سبقوا مصالي الحاج كانوا راضين عن الوجود الفرنسي في الجزائر، وأن أحمد باي، والأمير عبد القادر، والحداد، وبوعمامة، وغيرهم كانوا يجاهدون من أجل "لا شيء"، وهذا بخس لأشيائهم، وغمط لحقهم، وتنكر لفضلهم.
ولقد جادلني أحد القائلين بأولية مصالي الحاج وأسبقيته في الدعوة إلى الاستقلال قائلا: (إن المقصود من هذا القول هم السياسيون، ومصالي هو أول سياسي فعل ذلك، وأسس حزبا من أجله، فقلت له: وهل السياسي هو – فقط – من يؤسس حزبا؟ إن أحمد باي كان سياسيا قبل أن يكون قائدا عسكريا، وكان يدير ويسير منطقة أكبر مساحة وأكثر سكانا من كثير من الدول، وقد عمل طيلة سبعة عشر عاما للمحافظة على جزء من الدولة الجزائرية، مجاهدا في سبيل استرداد ما فقد منها، كما أن الأمير عبد القادر رجل سياسي، أسس دولة، وجاهد لإعادة ما اغتصبه الفرنسيون من أجزاء، وأجرى اتصالات دبلوماسية مع دول كبرى، (الدولة العثمانية – بريطانيا – إسبانيا).
ثم قلت لهذا المجادل: حتى ما ذهبت إليه من أن المقصود هم السياسيون مردود عليك، لأن هناك من سبق مصالي الحاج في الدعوة إلى الاستقلال، وفي تأسيس تنظيم سياسي يسعى لتحقيق ذلك.
فقال صاحبي: من تقصد؟. قلت: الشيخ صالح الشريف.
فقال: ولكن الشيخ صالح الشريف لم يقم بأي نشاط في الجزائر، ولم يسع لتأسيس فروع لتنظيمه فيها.
فقلت: وهل يشترط أن لا يكون العمل للجزائر إلا فيها، فالشيخ صالح الشريف بالرغم من ولادته في تونس (1866م)، ووفاته في سويسرا (1920) – مطاردا، ومحكوما عليه من الفرنسيين – ظل قلبه معلقا بالجزائر، داعيا لتحريرها، ساعيا لاستعادة استقلالها، كاشفا جرائم فرنسا ضد شعبها، وما منعه من العمل فيها إلا الظروف التي أحاطت به وبمساعديه، كالشيخ الخضر حسين، والشيخ محمد مزيان التلمساني، ومحمد بيرار، وحمدان بن علي الجزائري، وغيرهم، ولو امتد به العمر، وتغيرت الظروف لكان إلى الجزائر إيابه، وفيها نشاطه. ثم إن التنظيم الذي عمل فيه مصالي الحاج، ثم ترأسه – وهو نجم شمال أفريقيا – لم يقم بأي نشاط منظم في الجزائر إلا بعد عشر سنوات من تأسيسه في فرنسا في سنة 1926.
هز صاحبي رأسه، وقال: إن تاريخنا ما يزال في حاجة إلى عمل كبار، وإلى مجهود جبار، ثم افترقنا.
إن الشيخ صالح الشريف – لمن لا يعرفه – جزائري من وادي الصومام، اضطرت عائلته إلى الهجرة إلى تونس بعد احتلال الجزائر، وقد ولد في تونس، وتخرج في جامع الزيتونة، ودرس فيه، ومن تلاميذه الطاهر بن عاشور، ومحمد النخلي، ثم انغمس في العمل السياسي، فحاكمته فرنسا، ففر إلى استانبول، ثم إلى دمشق حيث أسس " جمعية الأخوة الجزائرية – التونسية"، وعندما احتلت إيطاليا ليبيا "كان أول من دخل إلى طرابلس عن طريق برقة، كما شهد الضباط الأتراك في مذكراتهم. (انظر كتاب: الشيخان المجاهدان، لأحمد العباسي). وفي سنة 1915 انتقل إلى ألمانيا، وقام بنشاط كبير في سبيل القضية الجزائرية – التونسية، والتقى المسؤولين الألمان، وعلى رأسهم قيصر ألمانيا. وفي ألمانيا أصدر الشيخ صالح – رفقة الشيخ الخضر الحسين – "مجلة الجهاد" وأسس "لجنة استقلال تونس – الجزائر"، ولما انهزمت ألمانيا، في الحرب العالمية الأولى لجأ الشيخ إلى سويسرا، فشارك في تأسيس "مجلة المغرب"، و"اللجنة التونسية – الجزائرية"، وقدم باسمها – رفقة الشيخ إسماعيل الصفايحي – تقريرا إلى مؤتمر الصلح، (الذي عقد بعد الحرب العالمية للنظر في نتائجها) للمطالبة بحق شعوب المغرب العربي في استعادة استقلالها، كما راسل في 2 يناير 1919 الرئيس الأمريكي ولسن في الموضوع نفسه.
يصدق في الشيخ صالح الشريف قول الشاعر:
وقلما أبصرت عيناك ذا لقب إلا ومعناه – إن فكرت – في لقبه
فقد كان صالحا، وكان شريفا، فقد عمل لدينه، وقومه، ووطنه، وكان في عمله شريفا، عفيفا، وإن كان على بعض إخوانه المسلمين – كالشيخ رشيد رضا – عنيفا.
لقد بلغ حقد فرنسا المجرمة على الشيخ صالح إلى درجة منع إنزال جثمانه من الباخرة التي نقلته إلى تونس لدفنه، - بعد ستة أشهر من وفاته.
وبعد تدخلات ومساع، سمحت بإنزاله واشترطت أن يكون الدفن ليلا، وقد نقل الجثمان وحضر الدفن الأمير شكيب أرسلان. رحم الله، الشيخ صالحا وصحبه، وجميع الشهداء والمجاهدين.


المصدر: محمد الهادي الحسني، أشعة الشروق، صدر المقال بالعدد 1115 في (01 جويلية 2004م)

ليست هناك تعليقات