الأوقاف الجزائرية بين الاندثار والاستثمار

شارك:

الدكتور/مسدور فارس

مدخل:
عند الحديث عن الأوقاف الجزائرية تطرح العديد من التساؤلات تتمحور في مجملها حول الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الأوقاف في الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الجزائر، إلا أن الواقع الذي يطرح نفسه هو أن الأوقاف في الجزائر ليس لها ذلك الدور الذي كان يرجوه الواقفون لأموالهم، اللهم إلا الدور الديني بكل جوانبه الوعضية والتعليمية وفق الأساليب التقليدية التي لم تطور بالشكل الذي يواكب التطورات الحاصلة في المجتمع الجزائري.

وعند البحث في تاريخ الأوقاف الجزائرية قبل العهد الاستعماري، أي خلال العهد العثماني، نجد أنها كانت تلعب دورا هاما في حياة المجتمع، فكانت الأوقاف توفر مناصب شغل هامة حتى خارج المناصب الدينية، ونجدها أيضا كانت تسهم في إصلاح حال الفقراء والمحتاجين في داخل الدولة وخارجها (أوقاف الحرمين الشريفين)، وترقية التعليم، وتوفير الخدمة العمومية من خلال ماء السبيل، وإصلاح الطرقات، والإنفاق على الحصون...
إلا أن الأوقاف الجزائرية بدأت تعرف تقهقرا وتراجعا كبيرين خلال العهد الاستعماري، حيث بادر المستعمر الفرنسي إلى مصادرتها، ومحاولة تقزيم أي دور لها في المجتمع، نظرا لتفطنه لمدى الاستقلالية التي كانت تمنحها هذه الأوقاف للمجتمع ليخدم نفسه بنفسه.
بعد الاستقلال كانت هنالك مبادرات متواضعة لترقية الأملاك الوقفية، ومحاول استرجاع ما ضاع منها، ولكن كل هذه الجهود كانت ضعيفة مقارنة مع حجم الأملاك الوقفية في الجزائر خلال العهد العثماني، وتعقد عملية الاسترجاع بعد الاستقلال لفقدان الوثائق التي حولها المستعمر إلى دياره الأصلية وبطئ عملية استرجاع الأرشيف الإداري للفترة الاستعمارية.
ما هي مختلف الجهود التي تحاول من خلالها إدارة الأوقاف في الجزائر ترقية وضعية الأوقاف وتمكينها من خدمة المجتمع بما يتوافق وتطلعاته اليومية؟ ثم ما هي الصيغ المعتمدة لاستثمار الأوقاف في بلادنا؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه من خلال هذا البحث.

أولا: وضعية الأوقاف الجزائرية أواخر العهد العثماني
سنركز هنا على أواخر فترة الحكم العثماني نظرا لغياب التوثيق اللازم للفترة التي سبقت تواجد الأتراك في الجزائر، وما هو ثابت من معطيات تم توثيقها والاستفادة منها في عدد من الدراسات المتخصصة في تاريخ الأوقاف الجزائرية قبل وخلال العهد الاستعماري، وذلك نظرا لما قام به المستعمر الفرنسي عند دخوله من الاستحواذ على الأملاك الوقفية وتوثيق استحواذه، إذ كان يتم الإشارة عادة في الوثائق الجديدة إلى أن أصل ملكية الأوقاف المسلوبة، "وقف أو حبوس"، وهذا ما ساعد الباحثين في التاريخ من الارتكاز عليها في تحاليلهم وبحوثهم.
1/- مميزات الأوقاف الجزائرية في أواخر العهد العثماني
إن وضعية الأوقاف في أواخر العهد العثماني تميزت بعدد من العناصر يمكن إيجازها فيما يلي :
- أن ظاهرة الوقف في المجتمع الجزائري كانت موجودة قبل مجيء الأتراك إلى الجزائر، وبالتالي فهي ظاهرة اجتماعية مرتبطة بعلاقة الجزائريين بدين الإسلام، ومن بين الأدلة على ذلك تلك الوثيقة التي تسجل وقفية مدرسة ومسجد "سيدي أبي مدين" بتلمسان والتي يرجع تاريخها إلى عام 906 هـ / 1500 م حيث توزع أوقاف "أبي مدين" بشيء من التفصيل.
- كما نجد أيضا أوقاف الجامع الأعظم بالجزائر العاصمة، لأقدم وثيقة وقفية تابعة له تعود إلى عام 947هـ/ 1540 م.
- تكاثر الأوقاف وانتشارها في مختلف أنحاء الجزائر بفعل الظروف التي كانت تعرفها الجزائر أواخر القرن التاسع الهجري وحتى مستهل القرن الثالث عشر الهجري، إذ تميزت أساسا بازدياد نفوذ الطرق والزوايا وتعمّق الروح الدينية لدى السكان...
- تنوع الأوقاف وخدمتها لمختلف مناحي الحياة، فقد أصبحت تشتمل على الأملاك العقارية، الأراضي الزراعية، الدكاكين، الفنادق، أفران الخبز، العيون والسواقي، الحنايا والصهاريج، أفران معالجة الجير، الضيعات، المزارع، البساتين، الحدائق،...
- غياب التنظيم المحكم للأوقاف في بداية الحكم العثماني وأواسطه، إذ لم يتحقق ذلك إلا في فترة متأخرة نسبيا كانت في أوائل القرن 12هـ (18 ميلادي).
- تميّزت الإدارة الوقفية في العهد العثماني بكونها محلية لها جهاز إداري مستقل محدد الصلاحيات، بإشراف مميز وكفاءة القائمين عليه.
وتجدر الإشارة إلى أن الأوقاف في العهد العثماني كان لها عدة أدوار تجسدت في المجالات التي كان ينفق فيها ريعها والتي منها :
1. الإنفاق على طلبة العلم والعلماء،
2. رعاية شؤون الفقراء والمحتاجين،
3. تمكين المستضعفين من حقوقهم نتيجة الظلم والتعسف في الأحكام،
4. رعاية شؤون القصر والعجزة وتوفير مصادر الرزق لهم،
5. رعاية العائلة الجزائرية وتعزيز تماسكها وحفظ حقوق الورثة،
6. تمويل صيانة المرافق العامة وتعاهدها بالرعاية،
7. إنشاء وترميم الثكنات والتحصينات المختلفة.

2/- أوقاف المؤسسات الخيرية في أواخر العهد العثماني وأوائل الفترة الاستعمارية الفرنسية:
ظهرت مؤسسات خيرية عديدة كانت لها أوقاف متنوعة ساهمت بشكل كبير في ترقية أداء الأوقاف في أواخر العهد العثماني، من هذه المؤسسات نذكر:
- أوقاف الحرمين الشريفين: أنشأت هذه المؤسسة الخيرية بغية تمكين الجزائريين آنذاك من وقف الكثير من ممتلكاتهم داخل المدينة (الجزائر العاصمة) وخارجها، مما جعلها في صدارة المؤسسات الخيرية من حيث عدد الأملاك التي تعود إليها أو الأعمال الخيرية التي كانت تقوم بها، فقد كانت تقدم الإعانات لأهالي الحرمين الشريفين المقيمين بالجزائر أو المارّين بها (بعد التأكد من صحة انتسابهم للأماكن المقدسة)، وتتكفل بإرسال حصة من مداخيلها إلى فقراء الحرمين الشريفين في مطلع كل سنتين عن طريق مبعوث شريف مكة، أو بواسطة أمير ركب الحجاز، كما أوكل إليها مهمة حفظ الأمانات والإنفاق على ثلاثة مساجد حنفية داخل مدينة الجزائر . وكانت هذه المؤسسة تشرف على ثلاثة أرباع الأوقاف كلها ، حيث وردت عدة تقارير في بداية العهد الاستعماري حول عدد الأملاك الوقفية التي كانت تابعة لمؤسسة الحرمين الشريفين، وخلاصة هذه التقارير قدمناها في (الجدول رقم1).
- أوقاف مؤسسة سبل الخيرات: مؤسس هذه المؤسسة الخيرية هو "شعبان خوجة" سنة 999هـ/1590م، وكانت تشرف على ثمانية مساجد حنفية (الجامع الجديد، جامع سفير وزاويته، جامع دار القاضي، مسجد كتشاوة، جامع شعبان باشا، جامع الشبارلية، جامع حسين داي، مسجد علي خوجة الموجود بحصن القصبة..،) كما كانت تشرف على عدة مشاريع خيرية عامة، كإصلاح الطرقات، وإجراء القنوات للري، إعانة المنكوبين وذوي العاهات، تشييد المعاهد العلمية، شراء الكتب ولوازم طلبة العلم،...
- أوقاف المسجد الأعظم: كان هذا المسجد يعرف نشاطا قضائيا، دينيا، تعليميا، اجتماعيا، وسياسيا مهما جدا في العهد العثماني، إلى درجة أنه غطى أنشطة كل الجوامع الأخرى التي بناها الولاة العثمانيون أنفسهم، والتي تجاوزت حسب أحد المؤرخين أكثر من مائة جامع أواخر القرن السادس عشر ، ثم إن إدارة الجامع الأعظم كانت مستقلة، ومداخيل كراء أحباسها ساعدها على أداء وظائفها المتعددة.
وقد ذكر في أحد التقارير الفرنسية أن أوقاف الجامع الأعظم كانت تحتوي على:
125 منزلا، 39 حانوتا (دكانا)، 3 أفران، 19 بستانا، 107 إيرادا ، وكان يستفيد من مردود أوقافه مجموعة كبيرة من رجال تتألف في أغلب الأحيان من: إمامين، 19 مدرسا، 18 مؤذنا، 8 حزابين، 13 قيما .
وكانت إيراداته تنفق على أشغال الصيانة وسير الخدمات، بينما الفائض فكان يوجه لإنشاء الزوايا والمساجد وغيرها.
- أوقاف مؤسسة بيت المال: تولت هذه المؤسسة إعانة أبناء السبيل واليتامى والفقراء والأسرى، وكانت تتصرف في الغنائم التي تعود للدولة، كما اهتمت بشؤون الخراج وحرصت على شراء العتاد، بالإضافة إلى أنها اضطلعت بمهمة إقامة المرافق العامة من طرق وجسور وتشييد أماكن العبادة من مساجد وزوايا .
أوكلت لمؤسسة بيت المال أيضا وظيفة التكفل بالأملاك الشاغرة التي لم يكن لها ورثة، حيث كانت تضعها تحت تصرف الخزينة العامة باعتبارها أملاك جماعة المسلمين (ملك عام)، كما تولت تصفية التركات والحفاظ على ثروات الأموات من فقراء وأبناء السبيل ومنح بعض الصدقات للمحتاجين، وهذه المهام الأخيرة هي التي أصبحت تشتهر بها وتختص بها أواخر العهد العثماني .
وأشرفت مؤسسة بيت المال أيضا على الأوقاف الأهلية التي توفّي عنها أصحابها بدون عقب، واستوجب إرجاعها إلى المؤسسات الدينية الموقوفة عليها، وذلك حتى تتم الإجراءات المتعلقة بتنفيذ مضمون أحكام الوقف والعمل بوصية صاحب الوقف .
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المؤسسة كانت تتمتع بالاستقلالية عن الإدارة العامة (البايلك)، وكانت مطالبة بدفع مساهمة شهرية تقدر بـ (700 فرنك) لخزينة الدولة، وتغطية نفقات الفقراء، والتكفل بأجرة القاضي والعدول وبعض العلماء التابعين لبيت المال .
- أوقاف أهل الأندلس: أسس الوافدون من عرب الأندلس مسجدا جامعا لهم سنة 1033 هـ وخصصوا له أوقافا عديدة، ذلك أنهم تملكوا أراض كبيرة بفحص الجزائر ، وكانت أوقاف هذا الجامع داخل وخارج المدينة، حيث خصصت لتنفق على شؤون العبادة به ومساعدة الفقراء من الأندلسيين العرب الوافدين، وكان يشرف على هذه الأوقاف وكيل يدعى "وكيل الأندلس".
وتذكر الدراسات أن أوقافهم فاقت (40) ملكية مستغلة بالإضافة إلى تخصيص ما يساوي (61) مردودا سنويا، إلا أنها تلاشت بعد تهديم زاوية الأندلس سنة 1841 م، وبلغت أوقافهم بالفرنك الذهبي ما يساوي 408072 فرنك سنة 1837م .
- أوقاف الأشراف: كانت لها أوقاف عديدة ينفق ريعها على زاوية خاصة بهم شيدها "الداي محمد بقطاش" سنة 1709 م وكان لها وكيل خاص بها يشرف عليها يعرف باسم "نقيب الأشراف" .
- أوقاف المرابطين والمعوزين من الجند: أوقافهم كانت بمدينة الجزائر وفحصها، وتوزعت على تسعة جهات من بينها ضريح" سيدي عبد الرحمن الثعالبي" الذي كان يحضى بـ 69 وقفا حسب إحصاء سنة 1834م، وكان يصرف مدخولها على إعانة بعض المحتاجين من سكان الجزائر والباقي يصرف على العاملين بزاوية "سيدي عد الرحمن الثعالبي" .
- أوقاف المرافق العامة والثكنات: أوقفت عدة أملاك داخل مدينة الجزائر وخارجها للإنفاق على المرافق العامة كالطرق والعيون والحنايا والسواقي والأقنية، وكل هذه المرافق كانت تحض بالعديد من الأوقاف، ويقوم عليها وكلاء وشواش يعرفون بأمناء الطرق والعيون والسواقي..
والملاحظ أن ظاهرة الوقف في العهد العثماني يمكن أن نستنتج منها ما يلي:
1. إن هذه الظاهرة ليست وليدة العهد العثماني، بل أن هنالك وثائق مؤرخة في (966هـ/1500م) تخص أوقاف " سيدي أبي مدين" بتلمسان، وبالتالي فتاريخ الأوقاف في الجزائر يرجع إلى ما قبل العهد العثماني .
2. هذه الظاهرة (الوقف) توسعت بشكل كبير خلال العهد العثماني في الفترة الممتدة من أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر.
3. من الأوقاف التي كانت بارزة خلال العهد العثماني هي الوقف الأهلي.
4. كانت الأوقاف تدرّ عوائد هامة ساعدت العثمانيين على ضمان رعاية خاصة لأمر الدين والعلم والثقافة، بالإضافة إلى رعاية عدد كبير من المرافق العامة.
5. الميزة في صرف إيرادات الأوقاف أنها كانت تهتم بالفقراء والمساكين والمحتاجين عامة بما فيهم عابري السبيل (ابن السبيل).

ثانيا: الأوقاف الجزائرية خلال العهد الاستعماري الفرنسي
منذ بداية العهد الاستعماري الفرنسي للجزائر كانت الإدارة الفرنسية تعتبر الوقف أحد المشاكل الكبيرة التي تعاكس سياستها الاستعمارية من جهة وتتنافى مع المبادئ الاقتصادية المرافقة لهذا الاستعمار من جهة ثانية، وكل ذلك يرجع إلى كون الأوقاف آنذاك كانت تعطي نوعا من الاستقلالية عن الإدارة الاستعمارية، لذا واجهتها الإدارة الفرنسية بالمصادرة والنهب بشتى الوسائل، فقد عمل قادة الجيش الفرنسي على فرض مراقبة شديدة للمؤسسات الدينية وتصفيتها والاستيلاء على الأوقاف التابعة لها، وعليه صدرت قرارات ومراسيم تنصّ على نزع صفة الحصانة عن الأملاك الموقوفة، هذه الحصانة التي كانت تشكل أحد العوائق التي واجهت الإصلاحات (المزعومة) للاستعمار .

1/- تشريعات فرنسية فككت الأوقاف:
أصدرت الإدارة الفرنسية مراسيم وقرارات كانت تهدف إلى إدخال الأوقاف في نطاق التعامل التجاري والتبادل العقاري حتى يسهل على المعمرين الأوروبيين امتلاكها بعد أن وضع الجيش الفرنسي بالجزائر العاصمة خلال السنوات الخمس الأولى للاحتلال يده على 27 مسجدا و11 زاوية ومصلى، حيث كان أول قرار فرنسي يتعلق بالأوقاف قد صدر في 08 سبتمبر 1830م، وتضمن بنودا تنصّ على أن للسلطات الفرنسية الحق في الاستحواذ على الأملاك التابعة لموظفي الإدارة التركية السابقة وبعض الأعيان من الكراغلة والحضر بالإضافة إلى بعض الأوقاف التابعة لمؤسسة أوقاف الحرمين مما أثار سخطا واستنكارا لدى رجال الدين والعلماء وأعيان مدينة الجزائر الذين رأوا في هذا القرار انتهاكا صريحا للبند الخامس من معاهدة تسليم الجزائر (4 جويلية 1830هـ) وكان في طليعة من احتجوا على ذلك المفتي "ابن العنابي" مما حال دون مصادرة أوقاف الحرمين آنذاك .
ثم توالت المراسيم والقرارات والخطط التي تتجه في معظمها إلى إحكام سيطرة الإدارة الاستعمارية على الأملاك الوقفية في الجزائر ومن بينها ما يلي :
- مرسوم 07 ديسمبر 1830 هـ يخول للأوروبيين (المعمرين) امتلاك الأوقاف، مما شكل استباحة صريحة للأملاك الوقفية.
- في 25 أكتوبر 1832م تم الشروع في تطبيق خطة السيطرة على الأملاك الوقفية وخلال 5 سنوات من هذا التاريخ تمت السيطرة عليها بالفعل ووضعت تحت تصرف المقتصد المدني الفرنسي حيث كان يتصرف في 2000 وقف موزع على 200 مؤسسة ومصلحة خيرية .
- قرار صادر في 01 أكتوبر 1844م ينصّ على رفع الحصانة عن الأوقاف وأنها أصبحت خاضعة لأحكام المعاملات المتعلقة بالأملاك العقارية، ومنه تمكن الأوروبيون (المعمرون) من السيطرة على نصف الأراضي الزراعية الواقعة بضواحي المدن الجزائرية الكبرى، وتراجع عدد الأوقاف إلى 293 وقف عام بعد أن كانت قبل الاحتلال تقدر بـ 550 وقفا.
- المرسوم الصادر في 30 أكتوبر 1858م الذي وسّع في صلاحيات القرار السابق، حيث أخضع الأوقاف لقوانين الملكية العقارية المطبقة في فرنسا وسمح لليهود وبعض المسلمين بامتلاكها وتوارثها...
- آخر قرار كان يطلق عليه "قانون 1873م" الذي استهدف تصفية أوقاف المؤسسات الدينية وبالتالي تم القضاء على مؤسسة الوقف في المجتمع الجزائري بموجب هذه القرارات المتتابعة من طرف الإدارة الاستعمارية.
2/- الهدف من تفكيك الأوقاف الجزائرية:
إن الشيء الملاحظ من هذه القرارات هو أنها كانت في أولى سنوات الاستعمار الفرنسي، مما يعني أن المستعمر أدرك منذ الوهلة الأولى أن تحطيم البنية الأساسية لتركيبة هذه الأملاك الوقفية سيمكنه من بسط سيطرته على الجزائريين، والواقع أن ذلك كان مربوطا كما ذكرنا بمعطيات اقتصادية جديدة تمثلت في نظام اقتصادي جديد عزم المستعمر على تطبيقه في الجزائر، كبديل لنظام اقتصادي كان سائدا في العهد العثماني الذي كان يوصف في أواخره بأنه كان يعاني من الانكماش والجمود، حيث خلص "الدكتور ناصر الدين سعيدوني" إلى أن أحد أسبابه الأساسية كانت الأوقاف وهذا لكونها جمدت الملكية الفردية وحالت دون انتقال الثروة العقارية تبعا للنشاط الاقتصادي.
والواقع أن هذا الاستنتاج الذي وصل إليه الدكتور"ناصر الدين سعيدوني" نختلف معه فيه، ذلك أن الوقف من حيث كونه نابع من قوة التضامن بين أفراد المجتمع والراجعة في الأصل إلى قوة عقيدتهم، لا يهدف إلى إحداث انكماش اقتصادي في البلد بقدر ما يهدف إلى إشراك القطاع الخيري (الذي كان قويا في ذلك العهد) في إعطاء نوع من الديناميكية للنشاط الاقتصادي، وقد ذكرنا من قبل أن الأوقاف قبل العهد الاستعماري كانت تخصص حتى لرعاية الطرق والعيون وغيرها من المرافق العامة، فكيف نحكم عليها أنها كانت أحد عوامل الانكماش الاقتصادي، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن هذه الأوقاف كانت في معظمها أوقافا على المساجد والزوايا وغيرها من المرافق الدينية والعلمية، ونحن نعلم أن المجتمع الجزائري آنذاك (وحاليا) كان يقدس المعالم الدينية بل ويحرص على عدم ضياع ممتلكاتها فكان يحرص في المقابل على تنمية وتثمير الأملاك الوقفية حتى تكون إيراداتها كافية لرعاية أماكن العبادة والنهوض بالتعليم الذي كان مرتبطا أيضا بالمساجد والزوايا والمدارس القرآنية، ومنه فهذا حافز على رعاية الأملاك الوقفية بشكل كبير.
لكنني قد أوافق الدكتور"ناصر الدين سعيدوني" الرأي لو أنه خص الوقف الذرّي بتحليله أو استخلاصه، لكن هذا مرتبط بحجم الأوقاف في ذلك العهد، لكن الأرجح أنها كانت محدودة مقارنة مع الأوقاف الخيرية أو العامة.
ثم لو لم يكن للأوقاف تأثير اقتصادي إيجابي على المجتمع الجزائري في أواخر العهد العثماني، لماذا حاول المستعمر الفرنسي منذ السنوات الأولى لاحتلاله الجزائر (إن لم نقل أيامه الأولى) أن يدمّر التركيبة التنظيمية لهذه الأملاك التي توضح التقارير التي أوردناها في السابق أنها كانت كثيرة، فهل كان المستعمر حريصا على مسح عنصر سلبي لا يفيد المجتمع، أم أنه كان يريد أن يعزّز الفقر والقهر في المجتمع الجزائري بمصادرته لأحد أهم موارد رزقه التي كانت تعطيه نوعا من الاستقلالية، ليجعل منه تابعا خاضعا للإدارة الاستعمارية.

ثالثا: الأوقاف الجزائرية بعد الاستقلال
بعد استقلال الجزائر ونتيجة للفراغ القانوني الكبير الذي واجهته الدولة آنذاك صدر أمر في شهر ديسمبر 1962م يمدد سريان القوانين الفرنسية واستثنى تلك التي تمس بالسيادة الوطنية، وبالتالي لم يكن ضمن اهتمامات الدولة موضوع الأوقاف المتبقية أو التي ضاعت مما أثر سلبا على وضعيتها (خاصة من حيث الرعاية والصيانة بالنسبة للتي بقيت)، بل استمر العمل بالقانون الفرنسي في التعامل مع الأملاك الوقفية، وإذا لم تكتسب الأوقاف الشرعية الإدارية اللازمة للقيام بدورها...بل حصر دورها في ميادين جد محدودة ومجالات ضيقة مثل دور العبادة ورعايتها والكتاتيب والزوايا.
1/- وضعية الأوقاف الجزائرية بعد مرسوم 64/283:
ولتدارك الموقف صدر مرسوم 64/283 المؤرخ في 17 سبتمبر 1964 يتضمن نظام الأملاك الحبسية (الموقوفة) العامة باقتراح من وزير الأوقاف، إلا أن هذا المرسوم لم يعرف التطبيق الميداني وبقي حال الوقف مثلما كان على عهد الاستعمار .
وفي شهر نوفمبر 1971 صدر مرسوم الثورة الزراعية، ورغم أن هذا المرسوم استثنى الأراضي الموقوفة من التأميم إلا أن تطبيق ذلك لم يكن كما نص عليه، بل أدرجت معظم الأراضي الوقفية ضمن الثورة الزراعية مما زاد من تقهقر وضعية الأملاك الوقفية حتى تلك التي كانت معروفة بعد الاستقلال وفلتت من الضياع والنهب أثناء الفترة الاستعمارية، وهذا ما عقّد من مشكلة العقار الوقفي.
وظلت وضعية الأملاك الوقفية في الجزائر سيّئة بل ازدادت سوءا مع مرور الزمن رغم صدور قانون الأسرة في يونيو 1984م الذي لم يأت بجديد فيما يخص تنظيم الأملاك الوقفية لكنه أشار إلى مفاهيم عامة حول الوقف في بابه الخامس .
ومنه فإننا نلاحظ أن الأملاك الوقفية عرفت إهمالا حتى بعد الاستقلال مما أثر سلبا على استمراريتها وتعرّض معظمها للاندثار خاصة العقارات المبنية بسبب الآثار الطبيعية وغياب الصيانة، ثم فوق كل هذا وذاك ضياع الوثائق والعقود الخاصة بها، ثم توقف عملية الوقف.
3/- وضعية الأوقاف الجزائرية بعد دستور 1989:
حدث أن صدر دستور سنة 1989 الذي يعتبر أول خطوة حقيقة لحماية الأملاك الوقفية حيث نصت المادة 49 منه على أن "الأملاك الوقفية وأملاك الجمعيات الخيرية معترف بها، ويحمي القانون تخصيصها"، وبالتالي حضيت الأملاك الوقفية بعد الاستقلال لأول مرة بالحماية الدستورية.
ومنه توالى صدور قوانين ومراسيم وقرارات عزّزت من وضعية الأملاك الوقفية في الجزائر ومكّنت من استرجاع مكانة الأوقاف بالتدريج في المجتمع الجزائري، ومن بين ما صدر ما يلي:
- القانون رقم 91/10 المؤرّخ في 12 شوال عام 1411 هـ الموافق 27 أبريل 1991 المتعلق بالأملاك الوقفية وتضمن 50 مادة تنظيمية.
- المرسوم التنفيذي رقم 98/381 المؤرخ في 12 شعبان 1419هـ الموافق 1 ديسمبر 1998 الذي حدد شروط إدارة الأملاك الوقفية وتسييرها وحمايتها وكيفيات ذلك، حيث تضمن خمسة فصول و40 مادة في مختلف الأحكام.
- القرار الوزاري رقم 29 المؤرخ في 31 فبراير 1999 القاضي بإنشاء لجنة للأوقاف وتحديد مهامها وصلاحياتها تحت سلطة وزير الشؤون الدينية والأوقاف.
- القرار الوزاري المشترك رقم 31 المؤرخ في 14 ذي القعدة 1419هـ الموافق 2 مارس 1999 المتضمن إنشاء صندوق مركزي للأوقاف بإشراف وزارتي المالية والشؤون الدينية والأوقاف.
- قرار وزاري بتاريخ 10 أبريل2000 يحدد كيفيات ضبط الإيرادات الوقفية ونفقاتها.
- قانون 01/07 الصادر بتاريخ 22 ماي 2001م المعدل والمتمم لقانون 91/10، حيث اهتم بتنمية الوقف واستثماره.
- ومن خلال هذه القوانين والمراسيم والقرارات وغيرها من التشريعات والتنظيمات (أنظر الجدول رقم 2) نلاحظ بأن النشاط التشريعي في مجال الأوقاف عرف نقلة نوعية خاصة بعد دستور 1989 مما عزّز من مكانة الأوقاف في القانون الجزائري، فبعد البحث عن قانون ينظمها منذ الاستقلال إذا بها تصل الآن إلى قانون يضمن ويحث على تنميتها وتثميرها بما يمكّن من توسيع قاعدتها وترقية أدائها في المجتمع.
رابعا: الاستثمارات العقارية الوقفية في الجزائر على ضوء قانون الأوقاف 91/10 وقانون 01/07.
إن الاستثمار الوقفي العقاري في الجزائر لم يعرف إلى غاية يومنا تطبيقات ميدانية قوية، ذلك أن الوتيرة التي تسير بها مختلف المشاريع الاستثمارية الوقفية ضعيفة جدا، علما أنها مشاريع واعدة وتبرز النقلة النوعية في هذا المجال.
ومن بين هذه المشاريع يمكن أن نذكر:
- مشروع حي الكرام ببلدية السحاولة بالعاصمة، الذي يعتبر الأول من نوعه في العالم العربي والإسلامي، وهذا من حيث تركيبته، فهو يحتوي على شقق سكنية، محلات تجارية، مركز أعمال، بنك، مسجد ومبرة لرعاية الأيتام.
- مشروع المركب الوقفي –البشير الإبراهيمي- ببلدية بوفاريك ولاية البليدة، والذي يحتوي على مكاتب دراسات، مكتبة تقليدية وإلكترونية وقاعة محاضرات، مدرسة قرآنية متخصصة في القراءات، ومدرسة متخصصة (في العلوم المختلفة)، ودرا الضيافة...
- مشروع المسجد الأعظم (مسجد الجزائر العاصمة)، وهو عبارة عن مركب وقفي يحتوي على ثالث أكبر مسجد في العالم العربي والإسلامي بعد الحرمين الشريفين، فندق، مركز صحي متخصص، منارة عامرة الأولى من نوعها في العالم، معهد عالي للدراسات الإسلامية، مركز تجاري، مطاعم، ورشات الحرف التقليدية، موقف سيارات، مساحات خضراء واسعة (70% من مساحة المشروع)، مركز ثقافي إسلامي،...
ومن خلال هذه المشاريع النموذجية يتضح أن هنالك نقلة نوعية في التفكير الخاص بالاستثمار الوقفي، وهذا لم يكن ممكنا لو لم توجد نصوص قانونية تتيح مثل هذه الاستثمارات، حيث بدأت هذه النقلة في التفكير الوقفي بعد صدور قانون 91/10 المؤرخ في 12 شوال عام 1411هـ الموافق 27 أفريل 1991 والمتعلق بالأوقاف. ثم تلا ذلك تعديل لهذا القانون وهذا بناء على القانون 01/07 المؤرخ في 28 صفر عام 1422 الموافق 22 ماي 2001 المعدل والمتمم لقانون 91/10.
لذا سنعرض أهم المواد التي تحدثت عن الاستثمار الوقفي التي أقرها القانونان وذلك وفق ما يلي:
أ)- الاستثمار الوقفي في قانون 91/10
لقد أتاحت المادة 45 من قانون 91/10 إمكانية استثمار الأملاك الوقفية وجاءت كما يلي: " تنمى الأملاك الوقفية وتستثمر وفقا لإرادة الواقف، وطبقا لمقاصد الشريعة الإسلامية في مجال الأوقاف حسب كيفيات تحدد عن طريق التنظيم".
ويظهر من استعراض هذا القانون أن هذه المادة هي الوحيدة التي تحدثت صراحة عن استثمار الأملاك الوقفية وربطها بشرط الواقف، وأن تكون مطابقة للشريعة الإسلامية في مجال الأوقاف، إلا أن كيفيات تطبيق ذلك لم توضّح فيما بعد عن طريق التنظيم حيث اقتصرت الاستثمارات (إن صح أن نسميها كذلك) على الإيجار ومراجعته وفق الأسعار الحقيقية والتي تظل دائما ضعيفة مقارنة بأسعار السوق.
وظل الأمر على ذلك الوضع (رغم صدور المرسوم التنفيذي رقم 98-381 المؤرخ في 12 شعبان عام 1419 الموافق 01 ديسمبر 1998 الذي حدد شروط إدارة الأملاك الوقفية وتسييرها وحمايتها وكيفيات ذلك) إلى أن جاء قانون 01/07 ليعدل ويتمم قانون 91/10. وعليه يمكن اعتبار قانون 91/10 أول خطوة في إطار التقنين للاستثمار الوقفي العقاري في الجزائر، لكن قانون 01/07 فصّل صيغ الاستثمار الوقفي بشكل أكثر وضوحا.
ب) - الاستثمار الوقفي العقاري في الجزائر على ضوء قانون 01/07
يمكن أن نلخص أهم المعطيات الاستثمارية العقارية الوقفية التي جاءت في القانون كما يلي :
- مصادر التمويل الاستثماري الوقفي: أوضحت المادة الرابعة أن هذه المصادر هي :
• التمويل الذاتي: من أموال الأوقاف ذاتها (صندوق الأوقاف)
• التمويل الوطني: مختلف مصادر التمويل الحكومية، المؤسسات، الجماعات المحلية...
• التمويل الخارجي: الهيآت والمؤسسات المالية الدولية أو حتى التمويلات الخاصة (الجالية في المهجر...)
- صيغ تمويل العقارات الوقفية الفلاحية : إذا كانت هذه الأوقاف عبارة عن أراض أو أشجار، حيث تستثمر وتنمى وفق الصيغ التالية:
• عقد المزارعة: ويتلخص في إعطاء الأرض الوقفية لمزارع يستغلها مقابل حصة من المحصول يتفق عليها عند إبرام العقد.
• عقد المساقاة: وهو إعطاء الشجر الموقوف لمن يصلحه مقابل جزء من الثمر الخارج منه.
- بالنسبة للأراضي الوقفية العاطلة : حددت نفس المادة أن تستثمر وتنمى هذه الأراضي الموقوفة العاطلة وفق ما يلي:
• عقد الحكر: الذي عرفته بأنه تخصيص جزء من الأرض العاطلة للبناء و/أو للغرس لمدة معينة مقابل دفع مبلغ يقارب قيمة الأرض الموقوفة وقت إبرام العقد، مع إلزام المستثمر بدفع إيجار سنوي يحدد في العقد مقابل حقه في الانتفاع بهذه الأرض، كما أعطته الحق في توريث حقه هذا خلال مدة العقد.
• عقد المرصد : سمحت نفس المادة باستثمار وتنمية الأراضي الوقفية بهذا العقد الذي يسمح بموجبه لمستأجر الأرض بالبناء فوقها مقابل استغلال إيرادات البناء، وله حق التنازل عنه باتفاق مسبق طيلة مدة استهلاك قيمة الاستثمار.
• عقد المقاولة : سواء كان الثمن حاضرا كليا أو جزئيا.
• عقد المقايضة : الذي يتم بموجبه استبدال جزء من البناء بجزء من الأرض.
• عقد الترميم (التعمير) :يخص العقارات الوقفية المبنية المعرضة للخراب والاندثار، حيث يدفع المستأجر بموجب هذا العقد ما يقارب قيمة الترميم أو التعمير مع خصمها من مبلغ الإيجار مستقبلا.
- القرض الحسن : إقراض المحتاجين قدر حاجتهم على أن يعيدوه في أجل متفق عليه.
- الودائع ذات المنافع الوقفية : وهي تلك التي تمكّن صاحب مبلغ من المال ليس في حاجة إليه لفترة معينة من تسليمه للسلطة المكلّفة بالأوقاف في شكل وديعة (وقفية) يسترجعها متى شاء على أن تقوم إدارة الأوقاف بتوظيف هذه الوديعة مع ما لديها من أوقاف.
- المضاربة الوقفية : وهي صيغة يتم من خلالها استعمال بعض ريع الأوقاف في التعامل المصرفي والتجاري من طرف إدارة الأوقاف.
خامسا: ملاحظات حول قانون 01/07
إن استعراض صيغ الاستثمار الوقفي في هذا القانون قد مكّننا من تسجيل عددا من الملاحظات الهامة التي نوجزها فيما يلي:
أ‌) إنّ عقد الحكر المعتمد في هذا القانون عرّف بطريقة خاطئة، ذلك أن هذا التعريف أو الصيغة توافق عقد الإجارتين وليس عقد الحكر، لأن عقد الحكر عرّف على أنه:" عقد يتم بموجبه إجارة أرض الوقف للمستأجر لمدة طويلة، وإعطائه حق القرار فيها يبني أو يغرس مع إعطائه حق الاستمرار بعد إنهاء عقد الإجارة ما دام أنه يدفع أجرة المثل بالنسبة للأرض الخالية من البناء والغراس الذي أحدثه فيها، ويسمى المستأجر وفق هذه الطريقة محتكرا" . أما عقد الإجارتين فهو بالصيغة التي جاء بها قانون 01/07.
ب‌) إن المرصد هو ما ينفقه المستأجر على عمارة الوقف حينما ينخرب ويحتاج للإصلاح، ولا يتمكّن متولّيه من إجارته إجارة طويلة يأخذ منها معجلا ينفقه على تعميره، والحال أنه ليس ثمة سابقة له يمكن إصلاحه بها، وتقدم من يستأجره ويصلحه بحيث تكون نفقات الإصلاح دينا مرصدا على الوقف، وإذا فإن اعتبار المرصد كعقد مقبول لكن الصيغة التي اعتمد بها في هذا القانون يشوبها نقص كبير، إذ لم توضّح أن المرصد هو تلك النفقة التي تكون دينا على الوقف ذاته، وأن ذلك مربوط بخراب الوقف إذ يحتاج عندها إلى الإصلاح، وأن المرصد ليس شكلا من أشكال استثمار الوقف بالصيغة التي طرح إنما أداة لتمويل رعاية الوقف وإصلاحه.
ت‌) عقد المقاولة لم يعرفه هذا القانون، وهو في الأصل عقد الإستصناع، الذي يعرف في هذا المجال على أنه دفع ملك وقفي لجهة معينة تقوم ببنائه (صنع البناء) يمكن تأخير الدفع بالاتفاق بين الجهتين، على أن تستغل إيرادات الوقف ذاته أو غيره في سداد الدين.
ث‌) عقد المقايضة أو الإبدال، الذي حصر القانون في استبدال جزء من البناء بجزء من الأرض، والسؤال الذي نطرحه هو: ألا تصلح العملية العكسية، أي استبدال جزء من الأرض بجزء من البناء، وقد يقع هذا، ثم لماذا نحصر العملية بهذا الشكل، وهي في أصلها مفتوحة.
ج‌) عقد الترميم الذي تحدث عنه القانون ما هو إلا المرصد، وهو التعريف الصحيح عوض ذلك المعتمد في عقد المرصد بنفس القانون.
ح‌) القرض الحسن ليس صيغة استثمارية للأوقاف، لأن الشكل الذي قدم به على أن الأوقاف هي التي تقرض المحتاجين، وبالتالي لا يمكن اعتبارها بهذا الشكل صيغة استثمارية، لأن الاستثمار مرتبط بالجدوى الاقتصادية للمشاريع والأرباح والنتائج المرجوة التحقيق، لكن لو كانت العملية من جهة تمويل خارجية (مؤسسات، حكومات، أفراد...) لصالح الأوقاف لمكّن هذا من تمويل الأوقاف دون أعباء مالية إضافية فوق الدين.
خ‌) أما ما تعلق بالودائع ذات المنافع الوقفية، فهذا الذي يمكن أن يدرج ضمن القرض الحسن من طرف جهات خارجية، فالوديعة نوع من الائتمان، وإذا كانت دون عائد فهي ضمن القرض الحسن من الأفراد والمؤسسات والهيئات، ثم ألا تطرح إشكالية المخاطرة في هذه الودائع، هل نحن بصدد الحديث عن بنك الأوقاف؟
د‌) إن المضاربة هي مشاركة بين رأس المال والعمل، والشكل الذي طرحت به في هذا القانون حصر في التعامل المصرفي والتجاري علما أنها أوسع من ذلك، فإذا كانت إدارة الأوقاف هي من تودع لدى المصرف مالا ليضارب به مضاربة شرعية فنحن هاهنا أمام إشكال كبير وواقعي، وهو أن الصيرفة الجزائرية ربوية بنسبة كبيرة، اللهم إلا ممارسة بنك البركة الجزائري، فكان الأجدر أن يوضّح القانون أن المضاربة التي يقصدها هي المضاربة الشرعية مع البنوك الإسلامية فقط، أو البنوك الجزائرية التي تفتح فروعا إسلامية لها. أما بالنسبة للتعامل التجاري الذي يطرحه القانون فلا يجب أن نغفل المخاطر الكبيرة التي تحيط بمثل هذه الاستثمارات حتى في المجال العقاري.
بينما لو كان التمويل بصيغة المضاربة بشكل عكسي(أي أن الأوقاف هي التي تستقبل تمويلات بصيغة المضاربة)، لكان أفضل، ذلك أنها ستكون المضارب بمال الغير، وسيمكنها هذا من التحكم أكثر في المشاريع التي تستثمر فيها، وهنا تطرح إشكالية الاختصاص والخبرة في مجال إدارة المشاريع الاستثمارية لدى إدارة الأوقاف.
سادسا: آفاق تطوير استثمار الأملاك العقارية الوقفية في الجزائر
إن الاستثمار الوقفي العقاري كما هو عليه الحال اليوم في الجزائر (بغض النظر عن المشاريع الجديدة التي هي موضع التنفيذ أو تلك التي أعدت دراسات بشأنها) ضعيف جدا مقارنة بالإمكانات المتاحة في هذا المجال، وهذا نظرا لاسترجاع أراض وقفية وعقارات هامة في وسط المدن وفي أماكن سياحية من الدرجة الأولى، لذا فإننا نقترح ترقية الاستثمار العقاري الوقفي في الجزائر من جانبين هما:
- تطوير الصيغ الاستثمارية العقارية الوقفية،
- تطوير مجالات الاستثمار العقاري الوقفي.
أ‌) بالنسبة لتطوير صيغ الاستثمار العقاري الوقفي
نقترح عددا من الصيغ هي كما يلي:
- صيغة المشاركة: وفيها،
• المشاركة الدائمة: وهو عقد تتشارك بموجبه إدارة الأوقاف مع جهة ثانية في مشروع عقاري وقفي دائم، كأن تدخل شريكا في إنجاز مشروع سكني على الأراضي الوقفية ويكون المال من الطرف الثاني (حكومة، خواص، مؤسسات مصرفية إسلامية...) على أن تكون حصة كل شريك من الأرباح على قدر مشاركة كل منها في رأس المال، ويبقى المشروع مؤجرا وتقسّم نتيجته بينهم.
• المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك: عوض دوام المشاركة يمكن أن تتنازل إدارة الأوقاف عن نسبة من حصتها السنوية (أو الشهرية) لإطفاء حصة الشريك ليؤول المشروع في النهاية إلى إدارة الأوقاف بالكامل.
- المضاربة المتناقصة المنتهية بالتمليك: تكون الأرض والمال من الأوقاف (مثلا) على أن يتولى مكتب دراسات (المضارب) إنجاز المشروع وإدارته بعد ذلك، وهذا مقابل نسبة من الأرباح كمقابل للجهد والخبرة والإدارة، لتقوم إدارة الأوقاف بشراء حصته من المشروع عن طرق الإطفاء السنوي بتنازلها عن نسبة إضافية من أرباحها لصالح المكتب.
- الإيجار المتناقص المنتهي بالتمليك: يمكن أن تستثمر إيرادات الأوقاف في إنجاز محلات تجارية على أراض غير وقفية، لتقوم الإدارة ببيعها بناء على صيغة الشراء بالإيجار مع هامش ربح معقول.
- الأسهم والسندات الوقفية: يمكن أن تستعين إدارة الأوقاف في تعمير أرض وقفية عن طريق الاستعانة بالتمويل السندي أو بالأسهم الوقفية، وهي عبارة عن منح حق استغلال المال لصالح الأوقاف – وفق طرق شرعية-، وبعد إنجاز المشروع وتشغيله (تأجيرا أو استثمارا معينا) يتم إطفاء هذه السندات والأسهم الوقفية من الإيرادات المتأتية من المشروع.
ب‌) تطوير مجالات الاستثمار العقاري الوقفي:
عوض أن تبقى الاستثمارات العقارية الوقفية مرتكزة على السكنات الوقفية وملحقاتها التجارية، يمكن أن ترقى إلى المجالات التالية:
- الفندقة الوقفية: ونقصد بها الاستثمار في إنشاء فنادق على الأراضي الوقفية وبالشكل الذي لا يتناقض مع تعاليم الشريعة الإسلامية، ونقصد الفندقة الإسلامية الراقية.
- القرى السياحية: يمكن أن تستثمر الأوقاف في إنشاء قرى سياحية في أماكن مختلفة من أرض الوطن وليس فقط في الأماكن الساحلية، وإنما يمكن الاستفادة من فكرة المنتجعات السياحية في العالم على أن تكون بمسحة إسلامية مميزة تحترم فيها العادات والتقاليد الإسلامية الحميدة.
- المستشفيات والعيادات المتخصصة: لا يوجد أي مانع في أن تكون الاستثمارات العقارية الوقفية عبارة عن مستشفيات وعيادات متخصصة تمارس نشاطها وفق أسعار تأخذ بعين الاعتبار وضعية المحتاجين والفقراء، وهذا بغية ترقية الخدمة الصحية الخاصة التي تأخذ بعين الاعتبار المستويات الاجتماعية المختلفة للمواطنين.
- المدارس والمراكز الوقفية المتخصصة: لا نقصد المدارس القرآنية فقط، وإنما تلك المدارس المتخصصة في تعليم اللغات، الإعلام الآلي، الحرف التقليدية، الصناعات الصغيرة،...وهذا بناء على أساليب التسيير الخاص لكن بصبغة اجتماعية.

خلاصة:
إن تاريخ الأوقاف الجزائرية يبيّن أن الجزائريين اهتموا كثيرا بها، وهذا يدل على تمسّكهم بعقيدتهم ودينهم الإسلامي الحنيف، ومن جهة أخرى اقتناعهم بضرورة التضامن والتكافل فيما بينهم، بل أنهم تضامنوا حتى مع إخوانهم المسلمون فقد أوقف الجزائريون للحرمين الشريفين وللوافدين منهما، وأوقفوا حتى في القدس الشريف (فحارة المغاربة دليل على ذلك)، وهذا لم يكن بعد التواجد العثماني في الجزائر وإنما قبله بكثير.
إن المستعمر الفرنسي عمل على تدمير التركيبة الخاصة بالأوقاف، وتمكّن من ذلك، فقد ضاعت الكثير من الأوقاف الجزائرية خلال هذه الحقبة المظلمة من تاريخه، مما جعل البحث عن هذه الأملاك وإعادة تخصيصها لما وقفت من أجله يكاد يكون مستحيلا لولا جهود الدولة الجزائرية في المجال التشريعي والتمويلي، وحتى جهودا دولية ساهمت في استرجاع الكثير منها في الفترة الممتدة من منتصف التسعينات إلى غاية يومنا (بتمويل من البنك الإسلامي للتنمية).
إن أولى فترات الاستقلال لم يكن فيها الشيء الكثير بالنسبة للأوقاف وإنما فترة نهاية الثمانينات وبداية التسعينات هي التي عززت من المكانة القانونية للأوقاف وأعادت بعثها من جديد، لكن بخطى وئيدة، إلى بداية القرن الواحد والعشرون حيث بدأت تلك التشريعات في مجال الأوقاف تعرف تطبيقا محتشما لها، وهي في تزايد إيجابي خاصة في مجال الاستثمار، فظهرت المشاريع الاستثمارية الوقفية التي ترعاها الدولة والخواص على حد سواد، وهذا ابتداء من حي الكرام الذي اعتبر أول استثمار وقفي معاصر بتمويل من الدولة الجزائرية، يليه المركب الوقفي "المسجد الأعظم" الذي يعتبر نقلة نوعية في المركبات الوقفية في العالم العربي والإسلامي، بالإضافة إلى المركبات الوقفية المصغّرة التي بدأت تنتشر في كل ولاية.
ويمكن أن نتحدث في هذه الخلاصة عن الجوانب التشريعية في مجال الاستثمار العقاري الوقفي، فرغم التطور الذي جاء به قانون 01/07 في الاستثمار العقاري الوقفي إلا أننا نسجل ما يلي:
- ضرورة مراجعة الصيغ المعتمدة من طرف المختصّين في الاستثمار الوقفي والتمويل الإسلامي، لتصحّح الأخطاء الواردة فيها.
- ضرورة الإسراع في إصدار النصوص التطبيقية التي توضّح كيفية تطبيق مختلف المواد لكن بعد مراجعة دقيقة لها.
- ضرورة توسع صيغ الاستثمار الوقفي بما يتوافق وتطور صيغ التمويل الإسلامي.
- التأكيد على أن التمويل الخارجي المعتمد يجب أن يحترم قواعد الشريعة الإسلامية خاصة في مجال الربا.
- إن ترقية الاستثمار الوقفي لا يعني الاهتمام بالصيغ التمويلية فقط، وإنما يجب أن تؤخذ المجالات الاستثمارية بعين الاعتبار.

ــــــــــــــــــــــــــــ
ناصر سعيدوني، " تاريخ الوقف ودوره الاجتماعي والاقتصادي"، الجزائر: دورة إدارة الأوقاف الاسلامية بالجزائر، 1999، ص2،3.
ناصر الدين سعيدوني، "تاريخ..."، مرجع سابق، ص4.
ناصر الدين سعيدوني، دراسات في الملكية العقارية، الجزائر: الشركة الوطنية للنشر، 1986، ص 84. وانظر أيضا:
J.Busson jensens, contribution à l'étude des habus publique Algériens,Thèse de doctorat en droit, ALGERIE: 1950, p27
J.Busson jensens, op cit, p259.
أنظر: عبد الرحمن بن محمد الجيلالي، تاريخ الجزائر العام، ج3، ط3، الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية، 1994، ص 424،425 (بتصرف)
وانظر أيضا: ناصر الدين سعيدوني، دراسات ...، مرجع سابق، ص 88.
عبد الرحمن بن محمد الجيلالي، مرجع سابق، ص 424، 425 (بتصرف)
Devolux,"les édefices religieux de l'ancien Alger", revue africaine (R.A), 1862, pp371-372 نقلا عن :ناصر الدين سعيدوني، دراسات...، مرجع سابق، ص 88 (بتصرف)
Archives d'outre-mer a aix (AOM) F.80 N° 1632
نقلا عن: عبد الجليل التميمي،" وثيقة عن الأملاك المحبسة باسم الجامع الأعظم بمدينة الجزائر" تونس: منشورات المجلة التاريخية المغربية، العدد 5، ص 10.
Tableau de la situation des établissements francais, année 1837,
نقلا عن ناصر الدين سعيدوني، دراسات..، مرجع سابق،ص90
Godin F, le regime foncier de l'algerie, in l'ouvre de la France en algerie, collection du centenaire de l'algerie, 1830,1930
نقلا عن: ناصر الدين سعيدوني، المرجع الآنف الذكر، ص95 (بتصرف).
ناصر الدين سعيدوني، نفس المرجع، ص95،96.
نفس المرجع، ص95، 96 (بتصرف)
نفس المرجع، ص95،96 (بتصرف)
فحص الجزائر: كان ينقسم إلى 3 جهات: باب الجديد، باب عزون، باب الوادي. أنظر: ناصر الدين سعيدوني، دراسات...، مرجع سابق، 97، 98.
أبو القاسم سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي، ج1، الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب، 1985، ص 236، 238.، وانظر أيضا: عبد الرحمن الجيلالي، مرجع سابق، ص 428، 429.
ناصر الدين سعيدوني، المرجع أعلاه، ص97، 98 (بتصرف).
J.Busson jensens, op cit, p35.
نقلا عن: ناصر الدين سعيدوني، دراسات...، مرجع سابق، ص 99 (بتصرف)
نفس المرجع، ص100 (بتصرف).
تنص وثيقة وقف سيدي أبي مدين بتلمسان على أوقاف: مسجد ومدرسة سيدي أبي مدين كانت تناهز 23 ملكا عقاريا داخل تلسمان.
لمزيد من التفاصيل أنظر: ناصر الدين سعيدوني، "تاريخ..."، مرجع سابق، ص9.
نفس المرجع، ص10، (بتصرف)
نفس المرجع، ص11،12 (بتصرف)
وذلك حسب ما جاء في التقرير العام عن الأوقاف بتاريخ 10 ديمسبر،1835.
راجع: ناصر الدين سعيدوني، تاريخ...، مرجع سابق، ص12، 13.
مديرية الأوقاف، " الأملاك الوقفية في الجزائر"، نواكشط: ندوة تطوير الأوقاف الإسلامية وتنميتها، منشورات البنك الإسلامي للتنمية بالتعاون مع الأمانة العامة للأوقاف، 2000، ص34، 35 (بتصرف)
نفس المرجع، ص35 (بتصرف).
المادة رقم 4 التي تتمم أحكام الفصل الرابع من قانون 91/10 بالمواد من 26 مكرر إلى 26 مكرر 11.
المادة 26 مكرر
المادة 26 مكرر1
المادة 26 مكرر 2
المادة 26 مكرر5
المادة 26 مكرر6
المادة 26 مكرر6
المادة 26 مكرر7
المادة 26 مكرر10
المادة 26 مكرر10
المادة 26 مكرر10
خليفة بابكر الحسن،"استثمار موارد الأوقاف: الأحباس"، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، جدة، العدد13 ،ص 79.

ليست هناك تعليقات